“أريد أن أحكي قصّتي من أجل الأمهات البيولوجيات الخائفات من الحقيقة. ليست قصتي المهمّة فعلاً، بل أردتها أن تكون صرخة قلبية إلى كل أم بيولوجية في لبنان أو في أي مكان، حتى لا تخاف بعد الآن وتتجرأ وتبحث عن ابنها المتبنى أو بنتها المتبناة”، هكذا كتبت لي إيمانيول إلينغرين، رداً على أسئلتي الفضولية عن حياتها ولقائها بأمّها البيولوجية اللبنانية، بعد 47 عاماً من الفراق.
أضافت إيمانيول: “أخبر قصتي الآن بعدما التقيت بوالدتي البيولوجية، أنا الابنة المتبناة لعائلة في فرنسا منذ الحرب اللبنانية، لأنه من غير المنصف أن يكون في العالم أطفال متبنون عاجزون عن لقاء أمّهاتهم، بسبب خوف هؤلاء السيدات من الفضيحة، فكل قصة تبني هي قصة خاصة جداً، ولها ظروف صعبة ومعقدة. أريد أن أتحدّث عن قصتي لأقول إنني الآن سعيدة وأمي البيولوجية سعيدة أيضاً بلقائنا. وهذا مهم حقاً”.
أضافت: “رغبتي في اكتشاف أهلي البيولوجيين وجذوري اللبنانية، أتت متأخرة بعد 47 عاماً، وكنت خائفة حقاً من جرح والديّ اللذين تبنياني، لكن في النهاية كنت أحتاج إلى معرفة أصولي. لم تكن تلك الخطوة موجهة ضدّهما، لكنني أردت حقاً معرفة من أنا”.
“لم أكن أعرف أي تفاصيل سوى أنني من أصول لبنانية، وكنت أعرف اسم دار الأيتام حيث أمضيت الستة أشهر الأولى من حياتي. عام 2014، استطعت أن أعرف اسم أمي البيولوجية، وبدأ المشوار بعدها بين السفارات والمؤسسات، مشوار طويل ومتعب. ثم من خلال فحص الـADN، سُمح لي بمعرفة أقاربي البعيدين نوعاً ما. واستطعت من خلال “فايسبوك” التواصل مع أحدهم، الذي تفاعل بسرعة، وأخبرني أنّ واحدة من قريباته حدث أن حملت وهي في السابعة عشرة، من دون زواج، وقد أجبرها أهلها على ترك طفلتها، التي كانت أنا”.
تابعت إيمانويل: “لقد كنت محظوظة لأن أفراد عائلتي كانوا يعرفون بوجودي، وقد تواصلت مع أختي غير الشقيقة، واستطعت أن أجري اتصالاً مع والدتي عبر سكايب، ثم سافرت إلى أستراليا حيث هاجرت أمي وعائلتها، والتقينا هناك”. أضافت: “لا يمكن أن تبني علاقة قوية وحقيقية خلال أيام أو أشهر، المسألة تحتاج إلى وقت حتى أتعرّف إلى السيدة التي أنجبتني وأصبح قريبة منها”.
وعن سؤال حول والدها البيولوجي، أوضحت إيمانيويل أنها ما زالت تتابع عبر فحص ADN، التعرّف إلى جذورها، لكنها حتى الآن لم تصل إلى والدها. أخبرتُ إيمانويل أنها بطلتنا وبوسعها أن تقول ما تشاء، فقالت في آخر الرسالة: “لا أريد أن أكون بطلة يا عزيزتي. أريد فقط أن أدعو الأطفال المتبنين الباحثين عن أهلهم إلى إجراء فحص الـADN، وهذه الدعوة موجهة إلى عائلاتهم البيولوجية أيضاً، لأن هذا الفحص سيسهّل الأمور على الجميع، وأتمنى أيضاً من الأمهات البيولوجيات أن يبحثن عن أولادهنّ، وألا يحرمنهم من لقائهنّ، مهما كانت الظروف صعبة”.
التبني غير الشرعي
أكثر من 10 آلاف طفل وطفلة وقعوا ضحية التبني من لبنان إلى بلدان متعدّدة منذ الستينات إلى اليوم، معظمهم بوساطة مؤسسات رعاية، وبطرائق غير قانونية وغير إنسانية، فما يظهر على أنه عمل خير، يُخفي في طياته أحياناً كثيرة كماً من الخبث وجرماً موصوفاً، تتشاركه أكثر من جهة، تتواطأ كلها بغية “بيع” طفل لعائلة وأخرى خارج البلاد، وتضييع الحقيقة وإخفائها.
توضح خبيرة في الرعاية الأسرية البديلة والمديرة التنفيذية لجمعية بدائل Alternativesزينة علوش أنه “حتى عام 2014 كان عدد الأطفال المتبنين من لبنان عبر الدول يقدّر بـ10 آلاف طفل. إنما يتبين لنا يوماً بعد يوم أن العدد أكبر بكثير، إذ نكتشف أن هناك بلداناً أخرى استقبلت أطفالاً من لبنان في تلك الفترة من أجل تبنيهم، لم نكن قد لحظنها قبل الآن”.
وتوضح: “كان أكبر تجمع لهذه الظاهرة في فرنسا، إذ كان هناك توأمة بين مؤسسات لبنانية للأيتام وفرنسا، ما سهّل عملية انتقال الأطفال إلى فرنسا”. وتضيف: “كما تبين وجود حالات في سويسرا وهولندا والدنمارك وأميركا والبرازيل وأيضاً كندا”، مشيرةً إلى أنّ “هناك عدداً من أطفال المخيمات الفلسطينية في لبنان تم تبنيهم في بعض الدول العربية مثل تونس والمغرب”.
“أتمنى من الأمهات البيولوجيات أن يبحثن عن أولادهنّ، وألا يحرمنهم من لقائهنّ، مهما كانت الظروف صعب”
وفي غياب أي قانون مدني للتبني، تؤكد علوش أن “اتفاقية لاهاي عام 1994، تشدد على اعتبار التبني عبر البلاد أمراً محظوراً، وهي موجهة بشكل أساسي إلى دول الشمال التي تستقبل الأطفال”.
وسط كل ما يقال عن حسنات التبني والثواب في الآخرة لمن يتبنى طفلاً، تشدد علوش على “مساوئ التبني عبر البلاد خصوصاً، وما خلّفه من تواطؤ ضمني بين مؤسسات الرعاية والدول والأهل المتبنين (تحت ستار عمل الخير تكون فيه الأم الوالدة الحلقة الأضعف)، إذ تم في حالات كثيرة استظهار أوراق ثبوتية مزوّرة، فهناك أطفال غادروا لبنان بجواز سفر لبناني حيث كُتب اسما الأم والأب المتبنين. كما تظهر أسماء الأهل المتبنين على شهادات الولادة في حالات أخرى، أي أن ما يمكن تسميته (صفقة) كان يتم قبل ولادة الطفل حتى. وثَبُت لنا أن الأوراق التي يحملها بعض الأطفال المتبنين الذين كبروا الآن، مزوّرة، حين حاولوا في الانتخابات البحث عن اسمائهم، فتبيّن أن ما يحملونه من أوراق لم يكن صحيحاً”.
“إنه سوق!”، تقول علوش، “تحت غطاء عمل الخير يتم بيع الأطفال وشراؤهم عبر الدول وقد أثبتت التجارب أن نتائج التبني عبر الدول ليست أفضل من تسليم الأطفال لمؤسسات رعاية. إذ يواجه الأطفال أزمة في الأوراق الثبوتية والهوية، يورثونها لأولادهم، للتبني ذيول معقّدة”، موضحةً أن “الحل الأفضل دائما هو إبقاء الطفل في بيئته والاستثمار في الوقاية من الفصل عن الأم الوالدة”.
في المقابل، تستمر عمليات البيع والشراء إلى اليوم، بلا أي مسؤولية أو حس إنساني، “هناك فواتير وصلت إلى المئة ألف دولار، ثمناً لتبني طفل، وهذا السوق مستمر إلى اليوم، فالمؤسسات القديمة ما زالت بمعظمها موجودة، وهناك مؤسسات جديدة أيضاً. وقد تراجعت الأسعار في الفترة الأخيرة بسبب اللجوء السوري”.
باحثون عن الجذور
شهدت السنوات الماضية عودة كثيرين ممن تم تبنيهم عبر البلاد وقد كبروا وأصبحوا رجالاً ونساءً، يحتاجون إلى معرفة قصصهم، وحقيقة فصلهم عن عائلاتهم البيولوجية وظروفها. إلا أن رحلة البحث تلك تصطدم بعراقيل كثيرة، ذلك أن من يملك الوثائق الرسمية أو المساعِدَة، يتمنّعون في أحيانٍ كثيرة عن إعطائها، لأنها تفضح تورّطهم في عمليات التبني عبر البلدان. ومن الجهات التي قد تكون متورّطة، دور رعاية وكتّاب عدل ومحامون وأيضاً أطباء وقابلات قانونيات، ومخاتير لتزوير شهادات الولادة، إضافةً إلى تورّط العائلات المتنازلة والمتخلية عن الأطفال من جهة، والعائلات التي الراغبة بالتبني من جهة ثانية. (الأم الوالدة هي الأقل تورطاً بل هي المجبرة على التنازل نتيجة ضغوط اجتماعية وهي تبقى الحلقة الأضعف والأكثر تألماً).
في هذا السياق، توضح علوش: “لا أحد في لبنان يجبر الجهات المتورّطة على تسليم الوثائق التي بحوزتها، وفي غياب القانون، تصبح عملية البحث عن الأم البيولوجية التي نعمل عليها مع عدد من المتبنين، عملية شاقة فعلاً، فمؤسسات الرعاية التي كانت تلعب دور الوسيط في موضوع التبني، مزاجية وقد تساعد في إعطاء وثائق وقد لا تفعل، ما يصعّب العملية، إذ لا شيء يلزمها بإعطاء أي معلومات”.
وتتابع: “نحاول الآن الدخول في مسار قانونيّ لتسهيل البحث عن الأم الوالدة التي عاشت سنوات من الألم والصمت وقد تكون الظروف أقوى منها، لذلك هي تخشى أن تبحث عن ابنها أو بنتها، خصوصاً أنها يوم التبني توقع وثيقة تخلي وتفقد الصلة بطفلها”. تضيف علوش: “في أحيان كثيرة كانت الأم تضع ابنها في دار الرعاية على أساس أنها ستعود، وحين ترجع لا تجده”.
يضمّ “درج” صوته إلى صوت زينة علوش وإيمانويل إلينغرين، لمناشدة الأمهات البيولوجيات للبحث عن أولادهنّ، والتجرؤ على قول الحقيقة… لا شيء أهمّ، من أن يعرف الواحد أي أحشاء حملته وفي جسد
ممارسات غير قانونية وغير إنسانية وقع آلاف الأطفال ضحيتها، وتتعقد عملية البحث عن الجذور مع ما تتطلبه من كشف عن سر الجهة المتبناة والجهة التي سهّلت الأمر وأيضاً الأهل الذين تبنوا الطفل، فمن يبحث عن حقيقة أمه البيولوجية، يتحوّل إلى باحث عن حبة قمح في وادٍ من الجنون.
دعوة لإجراء الـADN
تبدو عملية البحث عن الجذور أقل تعقيداً إذا نظر الواحد إلى التواصل الاجتماعي وما يتيحه من مواقع تقرّب المسافات والناس. إنما تقابلها في الجهة الأخرى صعوبات لا تتزحزح، لناحية خوف الأمهات الوالدات من الاعتراف بما حدث فعلاً. أمهات كثيرات يحاولن متابعة حيواتهنّ من دون النظر إلى الماضي والوجع الذي خلّفه. فالظروف التي تجبر أماً على تسليم ولدها لدار رعاية أو عائلة غريبة، تكون عادةً ظروفاً أكثر من مأسوية. لذلك تدعو علوش الأمهات الوالدات إلى إجراء فحص الـADN، والتجرّؤ على البحث، وتؤكد في المقابل أننا نحتاج إلى منصة للأمهات الوالدات حتى يستطعن التحدث بصراحة. وتتابع: “عملية البحث صعبة وتحتاج إلى تمويل، ونحن نحاول بقدر المستطاع تأمين المعلومات اللازمة ومساعدة المتبنِين، في المقابل تركز بعض وسائل الإعلام أحياناً على حالة واحدة، فيما المطلوب تسخير الطاقات لإيجاد آلية لمساعدة آلاف الشبان والشابات الباحثين عن جذورهم، لا سيما في ظل تشابك المعلومات بين المخاتير والقابلات والمؤسسات الرعائية”.
“أنا ضد اللقاءات المتسرعة، ربما تغيرت الظروف، ربما تلك الأم تزوجت ولا تعلم عائلتها الجديدة بأنّ لها ابناً أو بنتاً، ربما هناك قصة اغتصاب وخوف من الفضيحة أدت إلى التبني، على اللقاء أن يكون مدروساً”. تقول علوش: “هناك لقاءات حصلت، لكنّ العائلات والمتبنين اختاروا السرية، وأحياناً تكون الحقيقة صعبة. حتى اليوم لم تتجرأ سوى أقل من 5 نساء على الذهاب إلى جمعية مختصة والحديث عما حصل معهن ومحاولة البحث عن أبنائهن أو بناتهنّ”. وتتابع: “في المقابل تتحكم متلازمة النسيان ببعض الأمهات الوالدات، اللواتي لكثرة الألم النفسي، يحدث لهن نوع من النسيان لما حدث خلال فترة التبني والولادة”.
منذ الحقبة العثمانية
“شكلت الحقبة العثمانية وما تزامن معها من توافد الأرمن نتيجة الإبادات الجماعية عاملاً أساسياً في افتتاح دور الرعاية المنظمة وكان معظمها ذا تبعية طائفية وتركّز عمله على أن يكون محطة انتظار قبل إيجاد عائلة بديلة تتبنى الطفل. وهكذا شهد لبنان وصول إرسالية St Vincent de Paul . وكان افتتاح حضانة أخوات المحبة في الخندق الغميق عام 1848 لاستقبال الأطفال “المتروكين”. كما عملت الدولة العثمانية على تأسيس مركز لإيواء الأطفال الأيتام والمتروكين في ثكناتها العسكرية. وبعد سقوط الامبراطورية العثمانية، تداعت العائلات البيروتية لإنشاء خدمة رديفة، فنشأت دار الأيتام الإسلامية عام 1922.
أما العمل المؤسس في مجال التبني، فجاء خلال فترة الانتداب وما تبعه من استسهال في نقل الأطفال إلى عائلات أجنبية، لا سيما عائلات فرنسية، عبر اتفاقيات تعاون (تآخ) بين إرساليات فرنسية وأقرانها في لبنان. وهكذا تم تشريع عمل الإرساليات في مجال استقبال الأطفال “المتروكين”. وكان منح الدولة عام 1960 حضانة أخوات المحبة التي استقرت في الأشرفية تشريعاً قانونياً لعمل التبني في لبنان ومن لبنان إلى دول العالم، علماً أن فرنسا نالت الحصة الأكبر من هذا التبني نتيجة مفاعيل الانتداب المستمرة. ومع بدايات السبعينات، تأسس الكثير من دور استقبال الأطفال وكان البعض منها يسهّل عملية تبني الأطفال ومنها راهبات الراعي الصالح التي اضطلعت بمهمة شبيهة” (من مقال لزينة علوش في “المفكرة القانونية”).
نداء من القلب
قصص كثيرة هنا وهناك عن أطفال سُلبوا من بيئتهم البيولوجية، بحجة التبني كبادرة خير، فيما كان الجشع المادي، الحقيقة الوحيدة. إزاء كل ذلك، يضمّ “درج” صوته إلى صوت زينة علوش وإيمانويل إلينغرين، لمناشدة الأمهات البيولوجيات للبحث عن أولادهنّ، والتجرؤ على قول الحقيقة والخضوع لفحص الـADN. لا شيء أهمّ، من أن يعرف الواحد أي أحشاء حملته وفي جسد من عاش خلال الأشهر التسعة الأولى من حياته.
إقرأ أيضاً:
من التالية؟ :جرائم العار والحرب المزمنة ضدّ النساء
يوم مات السرطان تحت كندرة”مدام جورجيت”
Derniers commentaires
→ plus de commentaires